غزة- شرارة التغيير العالمي، لا مجرد كارثة إحصائية.

المؤلف: كمال أوزتورك10.07.2025
غزة- شرارة التغيير العالمي، لا مجرد كارثة إحصائية.

في الذكرى السنوية المروعة لبداية حرب غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وبعد مرور عام كامل، نُشرت حصيلة مأساوية، كاشفة عن أرقام وإحصائيات مفزعة تهز الضمير الإنساني. هذه الأرقام، التي ربما اطلعتم عليها، قد توحي بأن مسار التاريخ انحاز لإسرائيل بعد ذلك اليوم المشؤوم.

إلا أنني أرى الصورة بمنظور مختلف تمامًا.

أعتقد أن اختزال ذكرى السابع من أكتوبر/ تشرين الأول في تعداد الفلسطينيين واللبنانيين الذين أزهقت أرواحهم بنيران إسرائيل، أو في حصر عدد الدول التي طالتها الغارات والقصف، أو في رصد المناطق التي احتلتها، هو تبسيط مخلّ. بل يجب النظر إلى ذلك اليوم كشرارة انطلقت منها سلسلة متلاحقة من الأحداث الجسام التي ستغير وجه العالم.

اسمحوا لي أن أسرد لكم الأسباب التي دفعتني إلى هذا الاستنتاج.

تغيير طويل الأمد، لا مجرد مكسب زائل

لقد فقد أكثر من واحد وأربعين ألف فلسطيني حياتهم الغالية، وانضم إليهم أكثر من ثلاثة آلاف لبناني. غزة، وسوريا، واليمن، ولبنان، وحتى إيران، تعرضت للقصف العنيف. إسرائيل، في غمرة قوتها، اغتالت قادة من حزب الله وحماس، وطالت يدها أهم القادة العسكريين الإيرانيين. وفعلت كل هذا مستندةً إلى القوة العسكرية الأميركية الهائلة الراسية في مياه البحر الأبيض المتوسط.

تعيش إسرائيل نشوة الانتصار الزائف، معتقدةً أنها جنت مكاسب على المدى القصير. لكنّ المفكرين اليهود المستنيرين، والمحللين الموضوعيين، والأكاديميين الذين لم تغشِ عقولهم سحابة التعصب، يرون أن إسرائيل في الواقع تخسر على المدى الطويل؛ لأن موجة عارمة من معاداة إسرائيل تجتاح أرجاء المعمورة.

من أقصى الشرق في اليابان، إلى أقصى الغرب في أيرلندا، ومن روسيا في الشمال، إلى جنوب أفريقيا في الجنوب، اندلعت مظاهرات عارمة مناهضة لإسرائيل في عشرات الدول. وسنشهد جميعًا كيف سيؤثر هذا الغضب المتصاعد في المستقبل، وكيف ستتغير نظرة العالم إلى اليهود وإلى دولة إسرائيل.

تداعيات العداء المتنامي لأميركا وإسرائيل

أخبرني صديق يعمل في أحد مراكز الفكر المؤثرة في واشنطن، أن هناك نقاشات محمومة تدور رحاها يوميًا حول التداعيات الخطيرة لانتشار العداء لأميركا وإسرائيل في جميع أنحاء العالم.
وعلى الرغم من أن هذه المناقشات الحساسة لمَّا تجد طريقها بعدُ إلى وسائل الإعلام المهيمنة التي تسيطر عليها إسرائيل، فإن التقارير السرية الناتجة عنها تكشف حقيقة دامغة: العالم أصبح يذكر إسرائيل وأميركا بمشاعر الكراهية العميقة، وأن غضبًا لم يسبق له مثيل قد تفجر في قلوب الشعوب.
وهم يحاولون جاهدين تقدير العواقب المحتملة لهذا الغضب المتراكم. وفي ظل صعود آسيا السريع وتنافسها الشرس مع الصين، فإن سرعة تراجع النفوذ الأميركي أصبحت أكثر وضوحًا وجلاءً.

لقد أثارت السياسات الأميركية المتهورة حالة من عدم الثقة المتزايدة بين حلفائها التقليديين، مما دفع الدول التي كانت تفكر بجدية في التعاون معها في مشاريع مشتركة ضخمة أو التوقيع على اتفاقيات أمنية استراتيجية إلى التردد العميق. على أقل تقدير، لن تتجاهل هذه الدول الآن إمكانية تحقيق توازن دقيق مع الصين أو روسيا في مواجهة النفوذ الأميركي المتغطرس. لأن الدعم الأميركي الأعمى واللامحدود لإسرائيل، والذي يتجاوز كل منطق وكل المصالح السياسية الواقعية، يصعب تبريره أو فهمه.

الشباب الثائر الذين نزلوا إلى الشوارع في كل مكان للاحتجاج بقوة ضد إسرائيل وأميركا لن ينسوا أبدًا ما حدث في غزة من فظائع وجرائم. وفي المستقبل القريب، عندما يتم ذكر اسم إسرائيل أو أميركا، سيتذكر الناس على الفور المجزرة المروعة التي بدأت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. لا أحد يستطيع أن يتكهن متى وأين وكيف سينفجر هذا الغضب الكامن، ولكن المؤكد الذي لا يرقى إليه الشك أنه لن يكون في صالح أميركا أو إسرائيل على الإطلاق.

تسارع وتيرة انحدار أوروبا

إذا أمعنت النظر في المظاهرات الحاشدة التي خرجت لدعم فلسطين في جميع العواصم الأوروبية الكبرى، من لندن الصاخبة إلى فيينا الأنيقة، فستلاحظ الفجوة العميقة والآراء المتباينة بين الحكومات المنتخبة والشعوب الغاضبة. قد يعتقد البعض أن هذه المظاهرات قد نُظمت فقط من قِبل المسلمين المنتشرين في الشتات، ولكن الحقيقة هي أن أشخاصًا من مختلف الديانات والأعراق والثقافات شاركوا فيها بحماس وتصميم.

وقد أُعلن أن سبعين ألف شخص قد اعتنقوا الإسلام خلال هذه الفترة العصيبة. انتشرت الاحتجاجات في مجالات مختلفة ومتنوعة، من عالم الأزياء البراق إلى نجوم هوليود اللامعين، ومن عالم الرياضة المثير إلى الإعلام المؤثر، حيث تم التعبير عن مشاعر مؤيدة لفلسطين ومعادية لإسرائيل بشجاعة نادرة. وسنرى في المستقبل القريب كيف ستؤثر هذه الثقافة والمشاعر المتكونة على إسرائيل والولايات المتحدة.

فشل مدوّ للدول الإسلامية في الاختبار الصعب

لقد تخلت أوروبا والولايات المتحدة عن كل القيم الإنسانية النبيلة والمبادئ السامية التي طالما تباهت بها خلال حرب غزة. من الآن فصاعدًا، إذا تجرأ أي سياسي غربي أو أميركي على الحديث عن حقوق الإنسان أو القانون أو القواعد الدولية، فسوف ينهره أحدهم ويسكته بـ "صفعة غزة" المدوية. لقد سقطوا في هذا الاختبار الصعب، ولكن هل نجحت الدول الإسلامية بدورها؟

ربما كانت خيبة الأمل المريرة التي تسببت فيها الدول الإسلامية أكبر وأعمق. لقد راقبت هذه الدول المذبحة البشعة بسياسات صامتة، سلبية، وغير ذات معنى على الإطلاق، مما خلق شعورًا عميقًا من الغضب والإحباط لدى الشعوب المسلمة. سقطت مفاهيم الأخوة الإسلامية المقدسة، ووحدة الأمة الراسخة، والتدين الحقيقي تحت أنقاض المباني المدمرة في غزة.

وسيواجه هؤلاء القادة الذين صمتوا عن الكلام، إذا تحدثوا يومًا عن "الوحدة الإسلامية" أو "أخوة الدين"، نفس "صفعة غزة" اللاذعة التي تلقاها الغرب. إن عدم وجود احتجاجات صاخبة في شوارعهم اليوم لا يعني أن الشعوب المسلمة لا تحمل في داخلها ألمًا وغضبًا دفينًا لا يمكن نسيانه أبدًا. ولا يمكن لأحد أن يتنبأ متى وكيف سينفجر هذا الغضب المتراكم ليملأ الشوارع. ولكن من الواضح والجلي أنه لن يكون في صالح الأنظمة التي بقيت صامتة إزاء المذبحة المروعة.

ميلاد أفكار وأنظمة جديدة

لقد فقد الناس ثقتهم الغالية بالديمقراطية الزائفة والمساواة المزعومة والعدالة الغائبة والحضارة الغربية المتغطرسة وسيادة القانون المنحازة بعد ما حدث في غزة. لقد شاهد الجميع بأم أعينهم أن ديمقراطية الغرب وفهمه المشوه لحقوق الإنسان لا يعملان إلا لصالحهم ومصالحهم الضيقة. كما أدرك الناس أن الخطابات الدينية الرنانة والشعارات الإسلامية الجوفاء كانت مجرد كلمات فارغة لا معنى لها.

لهذا السبب، بدأت أقرأ بنهم أفكار المثقفين الشجعان الذين ينتقدون كل ذلك بشدة. ليس فقط من المثقفين المسلمين المستنيرين، بل أيضًا لمثقفين غربيين شجعان وعادلين بدأوا يتحدثون بصراحة عن أن الأفكار والأنظمة الحالية لم تعد قابلة للاستمرار على الإطلاق.

في أميركا وأوروبا، كما اجتمع المسيحيون واليهود المناهضون للصهيونية المتطرفة، والبوذيون المسالمون، واليساريون الثوريون، والمتدينون المخلصون على قضية مشتركة نبيلة، سنرى مثقفين من مختلف الأديان والأفكار يجتمعون ويتعاونون معًا لابتكار أفكار وأنظمة جديدة للإنسانية جمعاء.
سيكون الحديث في المستقبل عن الأنظمة والأفكار التي تتمحور حول العدالة المطلقة والضمير الحي والإنصاف الشامل بدلًا من الأفكار العقيمة التي تعتمد على الدين أو العرق أو الجنسية.

علمتنا غزة درسًا قاسيًا وبليغًا: أن الضمير الإنساني الحي يمكنه أن يتحد بقوة ضد الظلم المستشري والظالمين المتجبرين، بغض النظر عن خلفية الأشخاص أو معتقداتهم.

ولهذا السبب بالذات، أنا متفائل بمستقبل مشرق.

ولهذا السبب أيضًا، فإن يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول بالنسبة لي ليس مجرد ذكرى لإحصائيات كارثية وأرقام مروعة، بل هو اليوم الذي بدأت فيه التغييرات العميقة والجذرية في العالم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة